فصل: تفسير الآيات (1- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة إبراهيم:

نزولها: مكية بالإجماع.
عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية.
عدد كلماتها: ثمانمائة وإحدى وثمانون آية.
عدد حروفها: ستة آلاف وأربعمائة وأربع وثلاثون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 4):

{الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)}.
التفسير:
قوله تعالى: {الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
الذي نقوله هنا في {المر} هو ما قلناة من قبل في {المر} في سورة الرعد، وفى الحروف المقطعة، التي بدأت بها بعض سور القرآن الكريم.. وهى أنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم.. وأن ما جاء في السورة بعد من آيات اللّه، هو تأويل هذا المتشابه.
وعلى هذا، يكون: {الر} مبتدأ، وقوله تعالى: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ}.
خبر لهذا المبتدأ.
وقد أشرنا في آخر سورة الرعد إلى أن بدء سورة إبراهيم هنا هو ردّ على قول المشركين والكافرين، الذي حكاه القرآن الكريم عنهم، في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا}.
ففى قوله تعالى: {الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} توكيد من اللّه سبحانه وتعالى لرسالة النبي، وأنه يحمل بين يديه كتابا أنزل إليه من ربّه، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وذلك بإذن ربه الذي يهدى من يشاء، ويضلّ من يشاء.
وقوله تعالى: {إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} بدل من النور.
والتقدير لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، إلى صراط اللّه العزيز الحميد، ذلك الصراط، الذي هو نور تستضيء به البصائر.
وفى وصف اللّه سبحانه بهاتين الصفتين الكريمتين: {العزيز الحميد} تهديد للكافرين بعزة اللّه، وسلطانه الغالب، وتذكير للمؤمنين بنعمة اللّه عليهم بالإيمان، وأنه المستحق للحمد، والحامد لعباده المؤمنين ما يقدّمون له من طاعات وقربات.
وفى قوله تعالى: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} إشارة إلى عموم رسالة النبي الأمّىّ، وشمولها الناس جميعا.
قوله تعالى: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ} هو من عطف البيان على قوله تعالى: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
فالعزيز الحميد، هو اللّه الذي له ما في السموات وما في الأرض، أوجدهما بقدرته وملكهما بعزته، واستولى عليهما بسلطانه.
وفى قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ} تهديد للكافرين، ووعيد لهم بالعذاب الشديد، الذي ينتظرهم يوم القيامة، من مالك الملك، الذي إليه كل شيء، وبيده كل شيء.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} هو كشف عن صفات أولئك الكافرين، الذين توعدهم اللّه بالعذاب الشديد، وتلك الصفات التي جرّتهم إلى الكفر، وأقامتهم عليه، وذلك أنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وأفرغوا لها جهدهم، وأذهبوا فيها طيباتهم، على حين غفلوا عن الآخرة، وزهدوا فيها، ولم يعملوا أي حساب لها.. وهم لهذا يصدّون عن سبيل اللّه.. يصدّون أنفسهم عن الإيمان، ويصدّون الناس كذلك عن أن يؤمنوا باللّه، ويأبون إلا أن يركبوا طرق الضلال، وأن يركبها الناس معهم.
{أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} لأنهم ضلوا، وأضلّوا، فكانت جنايتهم غليظة، وجرمهم شنيعا.
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
هو بيان لحكمة اللّه في إرسال الرسل، واختيارهم من بين أقوامهم، وذلك ليأنسوا إليهم، ولا يستوحشوا منهم، أو يأنفوا الانقياد لهم، إذا كانوا من قوم غير قومهم، ومن أمة غير أمتهم.
والمراد بلسان قومه، جنسهم، ولغتهم التي يتعاملون بها، إذ كان اللسان هو أداة اللغة وترجمانها.. وإذ كانت اللغة هي التي تكشف عن وجه الإنسان، وعن الأمة التي ينتمى إليها.
وفى قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} إشارة إلى الحكمة التي من أجلها جاء الرسول إلى كل أمة، منها، وبلسانها، حتى يفهموا عنه ما يقول حين يتحدث إليهم {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ما أمره اللّه به.. فببيانه ينكشف لهم الطريق إلى اللّه، وبغير هذا البيان يظل الطريق بينهم وبين الرسول مسدودا.
وفى قوله تعالى: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} إشارة أخرى إلى أن هذا البيان الذي يبيّنه الرسول لقومه، ليس فيه قهر لهم، أو إلجاء واضطرار إلى الإيمان باللّه.. ذلك أن الإيمان باللّه، هو بيد اللّه، فمن شاء اللّه له الإيمان، آمن، ومن لم يشأ له أن يكون في غير المؤمنين بقي على كفره، ولن ينفعه هذا البيان الذي بيّنه الرسول شيئا.. وذلك هو حكم اللّه في عباده، وسنّته في خلقه.. يبعث رسله فيهم، ويقوم الرسل بتبليغ رسالة اللّه إليهم، وكشف الطريق إلى اللّه لهم.. ومطلوب من النّاس أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم إلى دعوة اللّه، وأن يستجيبوا لها، فمن كانوا ممن أراد اللّه لهم الهدى والإيمان، اهتدوا وآمنوا، وحسب ذلك لهم من كسبهم، ومن كانوا من أهل الكفر والضلال، جمدوا على كفرهم، وظلّوا على ضلالهم، وحسب ذلك من كسبهم أيضا.
فإذا ذهبت تسأل: ما أثر هذه الرسالات التي يحملها الرسل إلى النّاس، وما جدواها فيهم، وقد غلبت مشيئة اللّه، فكان المؤمنون مؤمنين بمشيئة اللّه، وكان الكافرون كافرين بمشيئته؟
إذا ذهبت تسأل هذا السؤال، جاء الجواب في قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
العزيز الذي عزّت مشيئته، وغلبت إرادته، والحكيم الذي أقام العباد فيما أراد، ووضعهم حيث شاءت حكمته، وقضت إرادته.
وقد عرضنا مشيئة اللّه ومشيئة العباد في مبحث خاص.

.تفسير الآيات (5- 8):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)}.
التفسير:
فى الآية (4) من هذه السورة، جاء قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}.
وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}.
تطبيق لهذا الحكم، الذي قضى به اللّه سبحانه وتعالى، وهو ألا يرسل رسولا إلا يلسان قومه.
فها هو ذا موسى، عليه السلام، وهو من بنى إسرائيل، يبعثه اللّه- سبحانه وتعالى- رسولا إلى قومه، ليخلصهم من فرعون.. أولا، ثم يخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى والإيمان.. ثانيا.
وأيام اللّه التي يذكرهم موسى بها، هي تلك الأيام التي كانت للّه سبحانه وتعالى، فيها نعم ظاهرة عليهم، إذ أنجاهم من آل فرعون، وخلصهم من البلاء الذي يلقونه تحت يد فرعون.. ففى هذه النعم آيات {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إذ لا يرى في تلك الآيات، آثار رحمة اللّه، وعظيم نعمته، إلا من كان قد وطّن نفسه على احتمال الضر، والصبر على المكروه، احتسابا للّه، ورجاء في العافية، واستشوافا للرحمة والإحسان من فضله- فإذا أذن اللّه بالفرج، وهبّت أرواح الرحمة والعافية، اتجهت القلوب المؤمنة باللّه، إلى اللّه بالحمد والشكر، كما اتجهت إليه من قبل بالدعاء والتضرّع.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} هو ما امتثل به موسى أمر ربّه، في قوله تعالى له: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} وها هو هذا يذكرهم بأيام اللّه ونعمه التي أفاضها عليهم في تلك الأيام.. فيقول لهم: {يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ثم بيّن لهم ما كانوا فيه، وهم تحت يد هذا السلطان الجبار، من بلاء. فقال: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ} أي يسوقونكم كما تساق الأنعام، ولكن لا إلى المرعى الذي تجد عنده شبعها وريّها، بل إلى العذاب، الذي تصلون ناره، وتتقلبون على جمره.
يقال: سامه على كذا، أي حمله عليه، وأورده إياه.. وسام فلانا الأمر:
كلفه إياه ومنه السائمة، وهى الأنعام التي يسوقها الراعي إلى المرعى.
قوله تعالى: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ} هو بيان لبعض ما كان يأخذ به فرعون بنى إسرائيل من بلاء.. إذ يذبّح أبناءهم، ويستأصل ذراريهم، ويستحيى نساءهم، أي يبيح حرماتهن، ويعرضهن لما تستحى الحرّة منه.
وقيل: {يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ} أي يستبقونهن أحياء، فلا يقتلونهن، كما يقتلون الأبناء.. وبهذا يتضاعف البلاء على الأمهات.. إذ يلدن، ثم يذبح أمام أعينهن ما يلدن.. وفى هذا موت بطيء لهن، وعذاب أليم، تحترق به قلوب الأمهات.. ولهذا جاء قوله تعالى: {وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} وصفا كاشفا لتلك الحال التي أخذ بها فرعون بنى إسرائيل من عذاب ونكال.
قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ}.
تأذّن ربكم: أي أذن، وحكم، وقضى.
وما قضى اللّه به هو أنه- سبحانه- يزيد الشاكرين لنعمه وأفضاله، نعما وأفضالا.. أما من كفر باللّه، وبنعمه، فله عذاب شديد، وبلاء عظيم، في الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
أي إنّ كفر الكافرين لا يضرّ اللّه شيئا، كما أن إيمان المؤمنين لا ينفعه، فهو الغنى عن خلقه.. إذ كيف يخلقهم، ثم يحتاج إليهم؟
تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وفى قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى غنى عن عباده، ومع غناه، فإنه يتقبل من المؤمنين إيمانهم، ويحمده لهم، ويجزيهم عليه.. فضلا منه وكرما، وتنويها بشأن الطيبات من الأعمال، وتكريما للصالحين من عباده.

.تفسير الآيات (9- 17):

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يجوز أن يكون من كلام موسى، خطابا لقومه، وتذكيرا لهم بأيام اللّه، وما يجرى فيها على عباده.. ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا، خطابا من اللّه- سبحانه وتعالى- للمخاطبين من أمة النبي محمد صلوات اللّه وسلامه عليه.
والنبأ: الخبر ذو الشأن، الذي يغطّى ذكره على ما عداه من الأخبار.
وفى هذا الاستفهام: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تهديد للمخاطبين، وإنذار لهم بأن يصيروا إلى مثل مصير هؤلاء الأقوام، الذين كذبوا رسلهم، ومكروا بهم، إذا لم يبادر هؤلاء المخاطبون، فيصدقوا برسول اللّه، ويستجيبوا لما يدعوهم إليه، مما فيه رشدهم وخيرهم.
وقوله تعالى: {قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} هو بيان لقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
فالذين من قبل هؤلاء المخاطبين، هم قوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، وقوم صالح، وأقوام كثيرون جاءوا بعدهم، وجاءهم رسل اللّه.. فكانوا جميعا على طريق واحد، من العناد والضلال، والتكذيب برسل اللّه، والكيد لهم.
قوله تعالى: {جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} هو بيان لنبأ هؤلاء الأقوام، وعرض لأخبارهم، وكشف لمواقفهم من رسلهم.
ويلاحظ أنهم أدرجوا جميعا في ثوب واحد، لا فرق بين سابقهم ولاحقهم، حتى لكأنهم جماعة واحدة، التقت برسول واحد.. وذلك لما كان منهم جميعا، من خلاف على رسلهم، وإعنات لهم، ومكر بهم.. وكذلك الرسل، هم أشبه برسول واحد، إذ كانت محامل رسالتهم واحدة، وهى الدعوة إلى الإيمان باللّه، والاستقامة على الهدى.
فالرسل قد جاءوا إلى أقوامهم بالآيات البينات، التي تحدّث عن صدق رسالاتهم، وأنها منزلة من عند اللّه، وأنهم رسل اللّه المأمورون بتبليغها إلى من أرسلوا إليهم.
أما المرسل إليهم- على اختلاف أزمانهم وأوطانهم- فإنهم ردّوا أيديهم في أفواههم، وقالوا: {إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}.
تلك هي قولة أولئك الأقوام، وذلك هو ردّهم على الدعوة التي دعوا إليها من رسلهم.
{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ} وذلك كناية عن أنهم سدّوا على الرسل منافذ القول، فلم يدعوهم يبلغون رسالات ربهم، بل قعدوا لهم بالمرصاد، كلما همّوا بأن ينطقوا بدعوة الحق، تصدّى لهم السفهاء، والحمقى من أقوامهم، يسخرون، ويهزءون، ويلغون ويصخبون، فكأنهم بهذا قد وضعوا أيديهم على أفواه الرسل، وحالوا بينهم وبين أن ينطقوا.
ويجوز أن يكون الضمير في أفواههم عائدا إلى أولئك الأقوام، وأنهم حين دعاهم الرسل إلى الإيمان باللّه، وضعوا أيديهم على أفواههم، وردّوا عليهم قائلين: إنا كفرنا بما أرسلتم به.. وذلك إشارة إلى أنهم رفعوا أصواتهم بهذا المنكر الذي استقبلوا به دعوة الرسل، ولم يقولوا ما قالوه في شيء من الأدب والرفق. فإن وضع اليد على الفم وترديد الصوت من خلالها، من شأنه أن يعطى الصوت قوة ووضوحا.
ويجوز أن يكون ردّ أيديهم إلى أفواههم كناية عن أنهم استقبلوا دعوة الرسل لهم إلى الإيمان باللّه، بالصمت المطبق، استخفافا بهم، واستنكافا من الحديث معهم، كما فعل ابن مسعود- شيخ ثقيف وسيدها- حين جاء النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إلى ثقيف يدعوهم إلى اللّه، بعد أن يئس من قومه في مكة، فقال له ابن مسعود: واللّه لا أكلمك أبدا.. لئن كنت رسول اللّه كما تقول، فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت كاذبا على اللّه، فما أنت أهل لأن أرد عليك...
وعلى هذا التأويل، يكون قولهم: {إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ} هو مما نطق به لسان الحال، وأنبأ عنهم صمتهم، وتجاهلهم لما يدعوهم إليه رسلهم، وعدّهم ذلك لغوا من القول، لا يستمع إليه، ولا يردّ على قائله!- {وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أي أنهم إذا حالوا بين الرسل وبين الكلام، تكلموا هم بالباطل من القول، والمنكر من الكلام، وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به، وإنّا لفى شك يبعث الريب والاتهام لكم أيها الرسل، فيما تدعوننا إليه.
قوله تعالى: {قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي إذا كنتم تشكّون فينا، فهل تشكون في اللّه، وفى وجوده، وهو الذي خلق السموات والأرض؟.. إن الشكّ فينا هو شك في اللّه، إذ أن دعوتنا هي دعوة إلى الإيمان باللّه، والإقرار بوحدانيته.. وأنه إذا لم يكن لكم في الآيات التي بين أيدينا ما يدعوكم إلى صدقنا، ففى هذه الآيات الكونية، وفى خلق السموات والأرض ما يدلكم على وجود الخالق، وعلى تفرده بهذا الوجود.. ومن ثمّ فليس من العقل أن تنكروا دعوتنا.. هذا إذا كانت لكم عقول تعقل وتتدبر!- وفى قوله تعالى: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} هو إغراء لهؤلاء المكذبين بالرسل أن يستجيبوا للّه، وأن يقبلوا دعوته التي يحملها إليهم رسله، فإنه- سبحانه- لا يدعوهم إلا إلى خير.. إنه يدعوهم ليغفر لهم من ذنوبهم، وليؤخرهم إلى أجل مسمّى فلا يعجّل لهم العذاب، الذي لابد هو واقع بالمكذبين في غير مهل، إن هم أصرّوا على ما هم عليه من كفر وضلال، بعد أن جاءهم من اللّه هذا البلاغ المبين.
وفى قوله تعالى: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} إشارة إلى أن هؤلاء المدعوّين، هم كتل متضخمة من الذنوب، وأنهم لن يستجيبوا جميعا لدعوة الرسل، وإنما الذي يستجيب منهم هو بعض قليل، وهم الذين يغفر اللّه لهم ذنوبهم.. فالذى سيغفر من ذنوب هؤلاء الأقوام، هو بعض من هذه الذنوب.. وعلى هذا، فليبادر كل واحد منهم إلى الإيمان باللّه، ليكون فيمن يغفر اللّه لهم، وألا يكون في المتخلفين الضالين.
{قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ}.
هى قولة من فم واحد، تلقّاها القوم خلفا عن سلف: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا} فهذه أول تهمة يتهم بها الرسل من أقوامهم، وإنهم لن يكونوا إلّا بشرا مثلهم كما يقول تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ}!- {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا} وتلك هي التهمة الثانية، وهى، أن الرسل يريدون أن يخرجوا بالقوم، عما كان عليه آباؤهم من ضلال وكفر.. وتلك هي قاصمة الظهر عندهم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى على لسان قوم صالح: {قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا} [62: هود].. وبقول سبحانه على لسان أصحاب مدين:
{قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا} [87: هود].
{فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ}.
وبعد هذا الاتهام، يجيء التحدّى، بطلب المهلكات التي أنذروا بها، واستعجال العذاب الذي حذّروا منه!.
والسلطان المبين. هو الحجة القاطعة، التي تسقط أمامها كل حجة! {قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
ولم يكن للرسل أن يقولوا لأقوامهم غير هذا، ولا أبلغ ولا أقطع من هذا.
إنهم بشر.. مثل أقوامهم.. فما الذي في هذا، مما ينكره المنكرون؟
وإنه الحسد لهؤلاء الرسل- وهم بشر مثلهم- أن يكونوا سفراء بين اللّه وبين الناس.. ولما ذا يختارهم اللّه دونهم؟.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان مشركى قريش في إنكارهم على النبي أن يكون هو المصطفى لرسالة اللّه إليهم: {وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وقد ردّ اللّه عليهم بقوله سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ} [31- 32: الزخرف].
وفى قول الرسل: {وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} ردّ مفحم على هؤلاء الذين ينكرون عليهم أن يكونوا رسلا من عند اللّه، حسدا لهم، واعتراضا على مواقع رحمة اللّه، أن تنزل حيث تشاء مشيئته.. فهذه رحمة اللّه تنزل.
بالنّاس، كما ينزل المطر، فيكون غيثا مدرارا في موضع، وقطرات قليلة في موضع آخر.. حسب تقدير اللّه، وحكمته.
{وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي إن ما تقترحونه علينا من آيات، هو مما لا يدخل في مضمون رسالتنا، ولا يخضع لمشيئتنا.. وإنما الآيات عند اللّه، وما أذن به لنا منها، قد جئناكم به.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي إننا وقد بلغناكم ما أمرنا به، سنمضى لشأننا، متوكلين على اللّه، الذي عليه يتوكل المؤمنون به، ويفوّضون أمورهم إليه.
قوله تعالى: {وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
هو تقرير وتوكيد لتلك الحقيقة التي أعلنها الرسل، وهى أنهم قد توكلوا على اللّه، وأسلموا وجوههم له.. ولم لا يتوكلون عليه وقد اصطفاهم لأكرم رسالة، وجعلهم مصابيح هدى للناس؟ لقد هداهم اللّه إلى الحق، وأقامهم على صراطه المستقيم.. فكيف لا يسلمون أمرهم إليه، وهو سبحانه الذي أخذ بأيديهم، فأخرجهم من تلك الظلمات المطبقة على أقوامهم؟
وفى قوله تعالى: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا} هو بعض ما يقدمه الرسل للّه، وهو الصبر على الأذى الذي يلقونه في سبيل تبليغ رسالته.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ}.
وإذا لم يكن في السفاهة باللسان، والتطاول بالقول، ما يقطع الرسل عن الدعوة التي يدعون بها، فليكن التهديد بالرجم، أو الطرد من الوطن.
ذلك ما قدّره الضالون المعاندون، وهذا ما عملوا له:-- {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا}.
هكذا يقولونها في غير حياء، حتى لكأن الرسل غرباء عن هذه الأرض، لا حق لهم فيها مثلهم..!
{أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا}.
الملّة، الدين، والعقيدة.
وعودة الرسل إلى ملّة قومهم، إنما هو باعتبارهم خارجين عليها، بالدّين الجديد الذي يدعون إليه.. وهذا غاية في الضلال والعناد، إذ يجيئهم الرسل بالهدى الذي يحمله الدين الجديد إليهم، فيدعون الرسل إلى أن يعودوا إلى دينهم الفاسد الذين يدينون به.!
{فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}.
وإذا كان لهؤلاء الكافرين أرض، فإن لهؤلاء الرسل ربّا.. وقد أوحى إليهم ربهم، وأخبرهم بأنه سيهلك هؤلاء الظالمين، الذين دفع بهم الظلم إلى أن يخرجوكم من أرضكم.
إنهم هم الذين سيخرجون من هذه الدنيا كلها.. إنهم لمأخوذون بنقمة اللّه، وإنهم لهالكون..!
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} فأنتم أيها الرسل الذين سيرثون هذه الأرض بعد هلاك هؤلاء الظالمين، الذين أرادوا إخراجكم منها.
{ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ} أي إنّ ذلك الجزاء الحسن وهذا النصر العظيم، إنما هو لمن خاف مقام ربّه، وخشى بأسه، فوقّره وعظّمه، واتقى حرماته، وعظم شعائره.. والرسل من هذا في المقام الأول، ثم من اقتفى أثرهم.
قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}.
استفتحوا: أي طلبوا الفتح والنصر.
ويصحّ أن يعود الضمير على الرسل، أو على أقوامهم المكذّبين بهم.
بمعنى أن الرسل طلبوا من اللّه أن يحكم بينهم وبين أقوامهم، كما يقول تعالى على لسان شعيب والمؤمنين معه: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} [89: الأعراف].. أو بمعنى أن الكافرين هم الذين طلبوا أن يأتيهم الرسل بالعذاب الذي توعدوهم به.. كما يقول اللّه تعالى في مشركى قريش بعد معركة بدر: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ} [19: الأنفال].
وسواء أكان الاستفتاح من الرسل، أو من أقوامهم المكذبين لهم، فإن العاقبة واحدة، وهى الخيبة والخسران للكافرين المكذبين: {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}.
قوله تعالى: {مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ}.
أي بعد هذا البلاء الذي ينزل بالجبارين المعاندين المكذبين برسل اللّه- بعد هذا البلاء الذي ينزل بهم في الدنيا، سيجيئهم (من ورائه) أي من بعده عذاب جهنّم، حيث يلقون الأهوال ألوانا وأشكالا.. فهناك الصديد الذي يسقاه الجبارون.. مكرهين، يتجرعونه جرعة جرعة، وقطرة قطرة.
{وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} وهو توكيد لشناعة هذا الصديد، وأنه لا يساغ الشارب أبدا، ولا يكون على أية درجة من درجات الإساغة.. وهذا أبلغ من أن يقال: {ولا يسيغه} لأن نفى الإساغة لا يقطع بأن تكون هناك درجة من درجات الإساغة في هذا الشراب، ولكن نظرا لقلتها، فقد شملها النفي.
أما قوله تعالى: {وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} فهو نفى قاطع لأى احتمال من احتمالات الإساغة لهذا الشراب.. وهذا مثل قوله تعالى: {فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [78: النساء].
قوله تعالى:- {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ}.
إشارة إلى أن ما يحيط بهذا الجبار العنيد يومئذ، من بلاء ونكال، هو مما تزهق به الأرواح، وأن كلّ سوط من سياط هذا العذاب الذي ينوشه من كلّ جانب، هو موت زاحف إليه، ولكنه لا يموت، بل يظل هكذا أبدا، يذوق عذاب الموت، وما هو بميت.
{كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} [56: النساء] وفى إفراد الضمير في قوله تعالى: {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} بعد قوله: {وَاسْتَفْتَحُوا}.
في هذا إشارة إلى أن العذاب الذي يساق إلى الكافرين، إنما يساق إليهم فردا فردا، حتى لكأن كل ما في جهنم من بلاء ونكال، هو للفرد الواحد من أهل جهنم: {مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ}.
فهنا يجد هذا الجبار العنيد نفسه وقد أفرد وحده في جهنم، يتجرع صديدها، ويحترق بنارها، ويشوى على جمرها، من غير أن يكون معه أحد، يشاركه هذا البلاء، ويقتسم معه هذا العذاب الغليظ.. وهذا ما لا تتحقق صورته لو جاء النظم القرآنى هكذا: وخاب الجبارون المعاندون، من ورائهم جهنم ويسقون من ماء صديد، يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه ويأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين ومن ورائهم عذاب غليظ.
فشتان بين نظم ونظم، وبين قول وقول، وتصوير وتصوير!